أجواء العيد في المستشفيات العمومية المغربية هي بين الحضور والغياب، وبين العناية والإهمال، وبين الترقب والتضحية، حياد24 تسرد لكم تجربة يوم الأضحى المبارك داخل إحدى أجنحة مستشفى الحسن الثاني بمدينة أكادير، حيث ٱختار ثلاثة نزلاء مشاركة قصصهم معنا وإيصال الصورة عبر السرد الواقعي للأحداث.

عبد الله: “عيد الأضحى لسنة 1973 كنا محتجزين في موريتانيا”


خلال أجواء العيد التي تعمها خارجا روائح “بولفاف” وكثرة الحركة؛ يعم هنا جو التسامح وإفشاء الدعوات بالشفاء جهرا وبصوت خافث أحيانا داخل الجناح 12 المخصص لجراحة الوجه وسط أروقة مستشفى الحسن الثاني بآكادير، يهم عبد الله أو الشريف كما كان يناديه الآخرون بالخروج من غرفته صباحا والإبتسامة بادية على وجهه، ليعود مسرعا وفي يده كيس أزرق مملوء بأنواع من الفواكه والمشروبات والمعلبات. يقول عبد الله “الله يخلف على المحسنين هوما لي واقفين معانا.. أمس أعطاني رجل لا أعرفه ربعالاف ريال”، ثم يجلس في سريره الطبي الذي يحمل رقم 6 وسط غرفة بها سريران فارغان ونافذتين مطلتين على حديقة خارجية، ليشرع في الحديث متكلما “المستشفى فارغ الآن وتغزوه القطط (يضحك) لكن سرعان ما سيزدحم وراء العيد بأيام قليلة.. لقد جاء مرضى قبل يومين وفور إعلامهم بموعد العمليات المتأخر بسبب قلة أطباء الجراحة غادرو الجناح في انتظار عودتهم قريبا”، عبد الله رجل في بداية السبعينات من العمر كان دخوله للمستشفى في هذا الوقت أمرا ضروريا من أجل استئصال ورم واضح في شفته السفلية، يصف الرجل حالته “بسبب جرح سببته لي شفرة حلاقة للوجه تطورت الأمور مع الأيام ليصبح ورما خبيثا، الشريف في أيام شبابه اشتغل في الصيد البحري لمدة تجاوزت 14 سنة متواصلة بين سواحل الداخلة لݣويرة ونواديبو خلال السبعينات والثمانينات الماضية، لينتقل بعدها للعمل كـ”سيفيل” على حد تعبيره. ويسرد قصته قائلا “أتذكر أيام عيد الأضحى لسنة 1973 حيث كنا على مثن السفينة (البياخي) ونبحر بعيدا في الجنوب.. فجأة تعجب كل الطاقم حينما أمسكتنا البحرية الموريتانية حينها بفرقاطة مغربية الأصل.. وضللنا محتجزين في مستودع وسط مدينة نواديبو لأربعة أيام متواصلة.. بعدها تم إخلاء سبيلنا وعدنا عبر سفينتنا والتي وجدناها مسروقة وفارغة من التجهيزات”. عبد الله رجل مطلق وله خمسة أبناء حاليا بالإضافة إلى حفيد واحد من ابنه البكر، لكنه في حديثه عن وضعه العائلي يقر باختياره طريق الوحدة والابتعاد ما أمكن عن جو الأسرة.

فاطْمة: “العيد بالنسبة لي هو صحة زوجي”

الساعة تشير إلى التاسعة والربع من صباح عيد الأضحى، تخرج فاطمة من مرحاض الجناح 12 وفي يدها سطل صغير به ثياب قامت بغسلها للتو. تمشي مسرعة ما أمكنها رغم التقدم في العمر. صوب مكان فارغ خارج الجناح بغية نشر الغسيل للشمس. تتكلم فاطمة الدارجة المغربية بصعوبة حيث تطغى عليها مخارج الحروف الأمازيغية لكنها تعبر بحرقة عن حالة زوجها “يحيى” الذي يعاني من سرطان الحنجرة. تقول فاطمة “العيد هو الصحة والسلامة. لقد أجرى زوجي قبل أسبوع عملية جراحية لحنجرته. نزع الأطباء جزءا من الحنجرة وهو في انتظار إجراء عملية أخرى الآن”. تنحدر فاطمة وزوجها يحيى من قرية قريبة لأكادير، حيث تعرف غرفتهما رقم 10 توافد العديد من الأبناء والأحفاد والأقارب، لكن فاطمة الوحيدة التي لا تبارح زوجها وتسهر على مراقبته طول الوقت. أمس مع تمام الثانية بعد منتصف الليل، وبينما المرضى يحاولون سرقة ساعات قليلة من النوم والراحة، تخرج فاطمة إلى رواق الجناح 12 وهي تصرخ مطالبة النجدة، لقد تعرض يحيى لنزيف حاد في حنجرته فتح على إثره الشريط الطبي اللاصق الذي يخفي جرح العملية. خرج ٱثنان من ذوي المرضى خارج الجناح في محاولة للبحث عن الممرضة المكلفة بالحراسة الليلية لكنهم فشلو في إيجادها لمدة تجاوزت 15 دقيقة، حينها توجه نزيل رفقة آخر إلى مكان ولادة النساء وسط المستشفى، وهناك قام طبيب بالاتصال بالممرضة التي اعتذرت وعالجت نزيف يحيى قبل وقوع مضاعفات.

هشام: “كُتب لي عمر جديد أيام العيد”
يحكي هشام قصة تواجده بالمستشفى بصوت منخفض وألم بارز على سحناته، حيث يعاني من عدة كسور على مستوى الوجه إضافة لكسر في مرفقه الأيمن. يقول “آخر ما أتذكره قبل الحادثة هو أنني حصّلت بمشقة الأنفس مبلغ 3500 درهم وكنت متجها لسوق الغنم بغرض شراء الأضحية على قدمي، وبينما أنا أقطع الشارع الكبير أمام محطة البنزين وقعت الواقعة فجأة”. يضيف “عندما استعدت وعيي داخل المستعجلات لم أجد المبلغ في جيبي. لكنني مسامح وأكثر إيمانا الآن بعد أن كتب الله لي عمرا جديدا”. هشام شاب في أواخر الثلاثينات من عمره مسؤول عن والدته إضافة لأربعة إخوة يقطنون منزلا واحدا. يرافقه في المستشفى ابن أخته الذي يحكي بلسانه “خالي يشتغل في بيع الخضار والفواكه على مثن عربة مجرورة، لقد كلف نفسه كثيرا وكانت نيته حسنة. قبل خمسة أيام صدمته سيارة مسرعة وأحضرته سيارة الإسعاف هنا لمستعجلات مستشفى الحسن الثاني. الآن يحتاج عملية جراحية بأسرع وقت ممكن في وجهه. ونحن على أمل انتظار الطبيب”. يشهد الجناح 12 وجود عشرة غرف للإستشفاء حيث ينام فيها غالبا الموشكون على إجراء عملية في الوجه أو من غادروا لتوهم قسم الجراحة، في كل غرفة أربعة أسرة. ويشهد عيد الأضحى هذه السنة وجود خمسة نزلاء فقط مرفوقين ببعض ذويهم. يمضي العيد هنا بطعم آخر وتطغى عبارات الشفاء غالبا على تبريكات العيد.

وجبات غذائية خرجت عن الطقوس ليغنيها التكافل

تدخل أشعة شمس العيد رويدا رويدا على الغرف التي ينام فيها من تبقى من المرضى القلائل داخل هذا الجناح، وحدها أصوات عجلات طاولة طعام الفطور توقض عبد الله من نومه. يتوجه صوب الباب وفي يده كأس فارغ، يقوم الرجل المكلف بتوزيع الطعام بمبادلته التحية ومباركا مناسبة العيد في كلامه. ثم يملأ ذلك الكأس بالشاي على عجل ويناوله خبزا وعلبة صغيرة تحتوي مربى. ومع تمام منتصف النهار تتقدم شابة ترتدي زيا أزق اللون خلف عربة يدوية لتقديم وجبة الغداء. يسارع عبد الله مجددا للوقوف وفي يده صحن زجاجي. تقوم الفتاة بوضع بعض الأرز في صحنه ثم تفتح وعاء آخر وتضع لعبد الله ثلاث قطع من اللحم وتناوله خبزة.. مع اقتراب العصر بدأت حركة الزوار تكثر شيئا فشيئا. لقد جاء الزائرون لملئ فراغ العيد المخيم على المستشفى. تدخل عائلة متكونة من خمسة أفراد إلى غرفة يحيى وزوجته فاطمة ويحمل أحدهم قفة تظهر منها أسياخ الشواء. وسرعان ما يمر شاب لتوزيع أسياخ الشواء “بولفاف” على كل نزلاء الجناح بدون استثناء. ومع غروب الشمس يتم توزيع وجبة العشاء من طرف الشركة المختصة بالطهي والتي كانت حساء “دشيشة” بدون أي إضافات.


أطقم طبية في مداومة العيد

بين الضرورة والواجب يختار مجموعة من مهنيي قطاع الصحة قضاء أيام العيد داخل مستشفى الحسن الثاني، والذي يستقبل غالب الأحيان قاطني الجهات الجنوبية الثلاث إضافة لجهة سوس ماسة درعة، توافد كبير على المستشفى في ظل أطباء معدودين يجسد حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، عاملات نظافة ومستخدمون في الحراسة والتنظيم بالعشرات ينتقلون بين أرجاء المستشفى على عجل.

خلال ليلة العيد يلاحظ تواجد أطباء آخرين من جنسيات آسيوية خصوصا داخل غرف الإنعاش، محاولين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا حوادث السير القادمة بدون سابق إنذار. وبينما شمس العيد تواصل حركتها في اتجاه الغروب، تكثر الحركة خارجا ما يحيل إلى اكتضاض المستشفى مجددا.